بين الغيبة والشكوي ، الاداب والفروق | اخلاق الرسول
بين الغيبة والشكوي ، الاداب والفروق | اخلاق الرسول
اخلاق الرسول
لو كانت الشكوى غيبة محرمة لَمَا كان هناك في الإسلام ما يسمى
بالقضاء من أجل حفظ الحقوق وردها لأصحابها إذا لم يفلح التفاهم والتصالح
الودي.
ولو كانت الشكوى غيبة محرمة لَمَا استمع الرسول صلى الله عليه
وسلم للمرأة التي جاءت تشتكى إليه زوجها.. إذ لن يقبل صلى الله عليه وسلم
أن يستمع إلى حرام!! وقد نزلت بشأنها آيات من القرآن الكريم تثبت حقها في
الشكوى.
ولو كان الله تعالى يحل للناس مشكلاتهم دون أن يتخذوا هم أسباب
حلها لحرّم على هذه المرأة شكواها أو نبهها أن تلجأ إليه فقط دون اتخاذ
الأسباب البشرية للحلول؛ إنه سبحانه لو فعل هذا لتضرر الناس ضررا بالغا،
ولم يكن ذلك في مصلحتهم أو رحمة بهم..
لأنهم سيتكاسلون عن الانطلاق في الحياة واستشكافها واتخاذ أسباب
الانتفاع بها وتقييم أوضاعها واتخاذ وسائل تحسينها إلى الأفضل والتعاون
فيما بينهم من أجل إصلاحها، فيتخلفون ويتعسون ولا يسعدون.
إنه سبحانه يتدخل فقط لعونهم على أسبابهم إذا اتخذوها، كما
علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله للرجل الذي سأله عن ناقته:
أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ فقال له: (اعقلها وتوكل) أخرجه الترمذي.
أو يتدخل سبحانه حينما يستنفذون كل الأسباب ويعجزون عن الحل، كما أشار لذلك
في قوله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنُّوا أنَّهم قد كذبوا جاءهم
نصرنا فنجِّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القَوم المجرمين). أو يتدخل أحيانا
دون أسباب منهم ليذكرهم بحبه لهم أو لوجوده معهم أو ما شابه ذلك.
يتبع : اخلاق الرسول
إن الشكوى مغايرة للغيبة، وسنبين ذلك في الأسطر التالية، ولكن
المشكلة الكبرى تتمثل في: من هم الذين نبثهم شكوانا، ونأتمنهم على أسرارنا،
ونطلب نصهحم ومشورتهم في خصائص حياتنا؟؟ فكثير من الناس –تحت ضغط الهم
والغم والضيق مما يعانيه ممن حوله- يذهب ليشكو ويفرغ بعضًا مما يكتمه
ويحبسه لدى من هم ليسوا أهلا لمثل هذه المكانة، إما لعدم أمانتهم على
المجالس وما يدور فيها من أحاديث، أو لعدم خبرتهم بالحياة وما فيها، فتكون
الشكوى لهم مصيبة مضافة لما يعانيه الشخص من المصائب، إذ قد يشيرون عليه
برأي يفسد ولا يصلح، ويضر ولا ينفع..
يتبع : اخلاق الرسول
لذلك فإن المشكلة الحقيقية هي حسن اختيار وانتقاء الأمين العليم
الخبير الذي يمكننا الاطمئنان إلى أن نبثه شكوانا. إن الفرق بين الغيبة
والشكوى -أختنا الكريمة- هو فاصل رفيع جدا كالشعرة.. هو النوايا، والنتائج:
ففي الغيبة: تكون النوايا داخل النفس سيئة، ونتائجها أسوأ؛ أما
في الشكوى: فتكون نوايا خير، والنتائج خير. في الغيبة: نوايا الإساءة للغير
واضحة، أما في الشكوى: فنوايا إزالة الهم هي الغالبة. في الغيبة: لا يراد
بها الإصلاح غالبا، أما في الشكوى: فيريد قائلها في الغالب التخفيف عن
النفس والإصلاح لنفسه ولمن أساء إليه.
في الغيبة: يتحدث فاعلها إلى كل من يقابله، إذ تصبح متعة لديه
وشهوة، أما في الشكوى: فهو ينتقى الذي سيتحدث إليه، وينتقى الأقرب إلى
قلبه، أو الأقدر على الإصلاح، أو الأوسع صدرا، أو الأكثر خبرة.. وهكذا.
في الغيبة: لا يريد المغتاب تواجد الطرف الآخر الذي يتغابه لأنه
يعلم أنه لن يرضى بما يقوله عنه، ولأن الأمر لا هدف له إلا التسلية على
الآخرين وظلمهم، وشغل الوقت سواء أكان بحلال أم حرام؛ أما في الشكوى:
فالصادق في شكواه يدعو لمن يشتكيه أن يصلح الله بينهما، ويحب تواجده من أجل
العدل والإنصاف وإقرار الحقوق وتوضيح الأمور والتناصح والتقارب والتفاهم
والتسامح والتغافر، من أجل الصلح وعودة الوضع إلى ما كان عليه من قبل، بل
أكثر قربا وحبا وودا وتعاونا. فمن كانت نواياه الإساءة لغيره، أو الإفساد
لا الإصلاح، أو تحديث كل من يراه سواء أكان مفيدا في علاج شكواه أم لا،
ويحب غياب من يتكلم عنه.. فهو مغتاب آثم، وكل من يستمع إليه بهذه النوايا
فهو أيضا مشارك له في إثم الغيبة، إلا أن ينكر ويجتهد في النصح والدفع عمن
يغتابه أو تغيير مجرى الحديث ما أمكن.
يتبع : اخلاق الرسول
فهذه هي بعض معاني ومفاهيم قوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضًا
أيحبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إنَّ الله
توَّابٌ رحيمٌ)، وبعض معاني ومفاهيم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (هل
تدرون ما الغيبة؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذكرك أخاك بما يكره)،
قيل: (أرأيت إن كان في أخي ما أقوله؟)، قال: (عن كان فيه أم تقول فقد
اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) رواه مسلم؛ أي ظلمته كثيرا وقلت
فيه زورا وارتكبت إثما كبيرا.
أما من كانت نواياه التسرية والتسلية وتخفيف الهم والإصلاح،
وتحدث إلى من يغلب على ظنه انه سيفيد في حل المشكلة، وأحب حضور من يشتكيه
ليدعو كل منهما للآخر وليتفاهما ويتقاربا ويتسامحا ويتغافرا ويتواصلا
ويتآخا كما كانا من قبل وأكثر، فهو بإذن الله مصلح مثاب على فعله. والدليل
على هذا قوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم).
يتبع : اخلاق الرسول
فمن هذه الآية الكريمة وغيرها من الأدلة استنتج العلماء أن هناك
بعض المواقف التي يحتاج فيها الإنسان المسلم إلى التعبير عما بداخله من
شكوى ولا يعتبر مغتابا ما دامت نوايا المصلحة والخير: كالمتكلم مثلا
للقضاء، أو لمن سيعطيه حقه وسيحل له مشكلته، أو كالمحذر للمسلمين من سوء
خلق وتصرفات شخص ما حتى ينصلح حاله أو يحذ الناس ضرره وأذاه، أو المستفتى
في مسألة ما، فيقول مثلا: فلان فعل كذا؛ كما فعلت هند بنت عتبة زوجة أبي
سفيان رضي الله عنهما حينما قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان
رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، أفآخذ من غير علمه؟ فقال لها صلى
الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) رواه البخاري ومسلم.. فقد
ذكرت أنه شحيح ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم عليها إذ كان قصدها
الاستفتاء، وإن كان الأولى والأفضل والأثوب للمستفتي التعريض والتلميح، كأن
يقول مثلا: من فعل كذا وكذا فما حكمه؟ أو كالمستعين على تغيير منكر ما في
شخص ما فيقول مثلا لصديقه: هيا بنا نصلح من شأن فلان لأنه يفعل كذا وأنت
ستساعدني على ذلك، بل أنت قد تكون أقدر عليه منى.. فقد بلغ عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أن أبا جندل رضى الله عنه قد شرب الخمر بالشام، فكتب إليه:
(حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابلِ التوب شديد
العقَاب ذي الطولِ لا إلَه إلا هو إليه المصير) فتاب أبو جندل، ولم ير عمر
ممن أبلغه أن ذلك غيبة، إذ كان قصده أن ينصحه عمر لأنه أكثر تأثيرا في أبي
جندل منه.
يتبع : اخلاق الرسول
فاستمري -أختنا الكريمة- في أن تكوني ملجأ لهذه الأخت -بعد الله
تعالى-، وأن تكوني صدرا حنونا واسعا لمن يحتاجون إليك في شكاياتهم، -إذا
رأيت في نفسك أهلا لهذا الأمر- على أن تراعي الضوابط التي سبق ذكرها، وأن
علميهم إياها، وأن يكون لك دور إيجابي قدر الاستطاعة في تقديم العون لهم،
أو السعي في مساعدتهم على حل مشكلاتهم، أو أرشديها إلى من هو أهل لذلك ممن
تعرفينه وتعرفين صلاحه وخبرته وأمانته.
واعلمي أن كل من شارك هذا المشتكي بنوايا صالحة، ونوايا الإصلاح
له ثوابه العظيم، ثواب الآخرة والحب والتعاون على إصلاح الناس وإصلاح
حياتهم وإسعادهم، كما يقول تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر
بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف
نؤتيه أجرًا عظيمًا)، حتى يأتي اليوم الذي تعم فيه أخلاق الإسلام عموم
الناس فيسعدوا بها، وحينئذ ستختفي فيما بينهم معظم الغيبة أو الشكوى!! وفقك
الله وأعانك وأسعدك ، ولا تنسنا من صالح دعائكم