محمد سعيد محفوظ
اليوم السابع
......................
اللهم أرنى الحق حقاً وارزقنى اتباعه، وأرنى الباطل باطلاً وارزقنى اجتنابه.
يبدو أننى رددت هذا الدعاء كثيراً حتى استجابت السماء، وصار بمقدورى تمييز أكاذيب الإعلام المصرى بمنتهى البساطة والسهولة واليسر.. لا يستغرق الأمر منى لحظة واحدة كى أقرر بقلب مطمئن ويقين مستقر أن أياً ممن يتصل بالبرامج على تليفزيون الحزب الوطنى وأفرعه فى القنوات الخاصة، مدعياً أنه متظاهر تائب، وداعياً زملاءه بميدان التحرير للرجوع إلى رشدهم وإبداء أسفهم وإعلان ندمهم، هو مأجور ومنتفع وألعوبة.. لا أقول ذلك لاختلافى معه فيما يقول شكلاً ومضموناً، أو لشعورى بالغثيان كلما استمعت لعباراته المعادة، مصحوبة بنحيب وعويل مثير للاشمئزاز أملاً فى استرضاء "بابا مبارك"، الذى يشعر بالمرارة من جحود أبنائه.. ولكن لأننى ـ إلى جانب ممارستى الصحافة ـ أعمل بالتأليف والإخراج، ولا يعجزنى أن أفرق بين القناع الأبله المزيف والوجه الحقيقى.. وأن أترجم فى أصوات هؤلاء الكومبارس شفرة الخداع والكذب، وأستشعر من تكلفهم فى الأداء والتشخيص مقدار التزامهم الحرفى بسيناريوهات معدة سلفاً، تسلك نفس الخط الدرامي، الذى يبدأ بزعم المتصل أنه عاد للتو من ميدان التحرير، ومعه الآلاف ممن انتبهوا فجأة للمؤامرة التى تحاك ضدهم، داخلياً من الإخوان وأحزاب المعارضة العميلة، وخارجياً من إسرائيل وحماس وإيران.. وأنهم أعادوا النظر فى بيان الرئيس الملىء بالشجون، وأدركوا أنه على حق، وأن مصر لا تعيش بدونه فى أمان، وإذا كنا قد صبرنا ثلاثين عاماً، فلم لا نصبر ستة أشهر، وأن مطالب المتظاهرين قد تحققت بالفعل عبر القرارات التصحيحية التى أصدرها الرئيس، وأن مقامه وسنه يستحقان من المتظاهرين الشبان توقيراً واحتراماً لا تطاولاً واستخفافاً، على هذا النحو الذى يجرى فى المظاهرات منذ الثلاثاء قبل الماضي.. وأن رحيل الرئيس ينبغى أن يكون مدروساً وتدريجياً، ويوفر له التكريم اللائق، وأن سمعة مصر تداس وتمتهن أمام العالم مع كل يوم يصر فيه المتظاهرون على البقاء فى ميدان التحرير، وترديد الهتافات المعادية للرئيس.. ثم ما يلبث المتصل أن يوجه خطابه للرئيس مبارك، متوسلاً أن يقبل اعتذاره، وسرعان ما يبكى المتصل، ويرتفع صراخه، وهو يردد: أنا آسف يا ريس.. سامحنى يا ريس.
لكننى أعترف بأن سيناريست هذه الاتصالات ليس بهذه النمطية طوال الوقت، فأحياناً ما يدس متصلين لأداء أدوار مستوحاة من قصص المخابرات فى الأعمال البوليسية، مثل مسلسل "رأفت الهجان"، و"دموع فى عيون وقحة".. حيث يروون قصصاً طريفة وبلهاء عن محاولات تدريبهم من قبل الموساد الإسرائيلى فى الولايات المتحدة وقطر على فن القيام بانقلاب على الدولة!! وتلقى قياداتهم خمسين ألف دولار لكل منهم!! صادف "سيد علي" اتصالاً من هذا النوع فى برنامجه "48 ساعة" على قناة المحور ولولا ثقتى فى فطنة وذكاء "سيد" لتصورت أنه صدق المتصلة الساذجة بالفعل، من انفعاله المبالغ فيه وتظاهره بالذهول مما قالته، حيث استوقفها، وطلب منها بجدية مصطنعة تكرار شهادتها "المضحكة"، ثم ذكّرها (قبل أن تفسد الخلطة بالكامل) بأن عليها ألا تكشف عن شخصيتها، قائلاً: طبعاً أنتِ لن تذكرى اسمك حتى لا يتعقبك الأمن!! فأجابت بخليط من اللغة العربية والإنجليزية الركيكة بأنها لا تخشى الأمن، ولكن تخشى زملاءها الذين تلقوا معها هذه التدريبات، كما أنها تخشى انتقام إسرائيل!! وأن ما أيقظ ضميرها هو خطاب "السيد الرئيس"، الذى دفعها للبكاء، ولأن تعتذر له، وتقول له: أنا آسفة يا بابا..!! وبمنتهى الحماس، وعد "سيد" وزميلته "هناء" بأن يستضيفا هذه الفتاة فى الاستوديو لاستعراض وثائقها ومناقشة شهادتها بالتفصيل، وهو ما حدث بالفعل فى اليوم التالى، حيث ظهرت المتظاهرة التائبة فى الاستوديو، ولكن مع تشويه اللقطة للإيحاء والتظاهر بأنها فى خطر، وأن البرنامج مشكوراً يحافظ على سلامتها.. وكأن "سيد" لا يعرف أن من يقوم على تنسيق الاتصالات فى غرف التحكم بمعظم هذه البرامج منذ اشتعلت ثورة التحرير، هم من رجال الأمن.. وأنهم هم من جلبوا هذه الفتاة، على الأرجح من خلال ريجيسير رخيص.
هذا هو جانب فقط مما يفعله إعلام الحزب الوطنى لتخوين المتظاهرين الشرفاء، وحشد الرأى العام ضدهم، والنيل من عزيمتهم، وزعزعة صمودهم وإرادتهم.. استأجر عشرات الشبان والفتيات لتقمص أدوار قيادية فى حركة 25 يناير، ووزعهم على البرامج التلقينية (الحوارية سابقاً)، للزعم بأنهم يدعون لإنهاء الاعتصام، والاكتفاء بما تحقق، والاقتناع بوجهة نظر النظام فى ثوبه الجديد.. والحقيقة التى يعرفها خبراء الإعلام التحريضى فى دولة مبارك، أن النظام يتهاوى، وأن العد التنازلى لسقوطه فى مزبلة التاريخ قد بدأ بالفعل، وأن شباب ميدان التحرير متماسكون، وصامدون، وأنهم أشرف شباب الأرض، الذى لا يباع ولا يشترى، ومَن أهّله لإحياء كرامة ووعى وإرادة المصريين، بل والعرب جميعاً، سيؤهله بالتأكيد لكشف المؤامرات، وإحباطها، والحفاظ على طهارة الثورة، ونبل أهدافها، وصمود أبنائها..
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.. آمين!