مجاملة النصارى
أنا طالب مسلم أدرس في بلد أوروبي ، وأحمد الله أني محافظ على ديني ، مؤد لفرائض ربي ... . والمشكلة التي أود أن أعرضها على فضيلتكم هي: ماذا يحل لنا من مجاملة القوم في المناسبات المختلفة وما يحرم علينا؟ ومنها: مناسبات وطنية ، وأخرى مناسبات دينية ، وأشهرها عيد (ميلاد المسيح) أو ما يسمى(الكريسماس) الذي يحتفل به القوم احتفالاً كبيراً. هل يجوز للواحد منا أن يجامل زميله في الدراسة ، أو مشرفه على الرسالة ، أو رفيقه في العمل، أو جاره في المسكن، في هذه المناسبة ويهنئه بها ببعض الكلمات الرقيقة المعتادة.. .وأنا حين أجاملهم بكلمة أو بهدية لا يخطر في بالي أني أقرهم على باطلهم ، أو أوافقهم على كفرهم ، إنما هو حسن المعاشرة التي أمر بها الإسلام، ولطف التعامل مع الناس. ولا سيما أنهم يبادرون بتهنئتنا في أعيادنا ، وقد يهدون إلينا بعض الهدايا.
إن القرآن الكريم قد وضع دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة الممتحنة، وقد نزلت في شأن المشركين الوثنين،
فقال تعالى: }لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{[5],
ففرقت الآيتان بين المسالمين للمسلمين والمحاربين لهم. فالأولون (المسالمون) شرعت الآية الكريمة برهم والإقساط إليهم، والقسط يعني: العدل، والبر يعني: الإحسان والفضل، وهو فوق العدل، العدل: أن تأخذ حقك، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك ، العدل أو القسط: أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه. والبر: أن تزيده على حقه فضلاً وإحساناً ، وأما الآخرون الذين نهت الآية الأخرى عن موالاتهم، فهم الذين عادوا المسلمين وقاتلوهم، وأخرجوهم من أوطانهم بغير حق، إلا أن يقولوا: ربنا الله، كما فعلت قريش ومشركوا مكة بالرسول وأصحابه.
رد: المجموعة الأولى لمسابقة منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب
وقد اختار القرآن للتعامل مع المسالمين كلمة (البر) حين قال: " أن تبروهم" وهي الكلمة المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله تعالى، وهو (بر الوالدين). وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفأصلها ؟ قال: صلي أمك. هذا وهي مشركة، ومعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب أخف من موقفه من المشركين الوثنيين.
رد: المجموعة الأولى لمسابقة منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب
حتى إن القرآن أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم، بمعنى: أن يأكل من ذبائحهم ويتزوج من نسائهم، كما قال تعالى في سورة المائدة: } وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ
رد: المجموعة الأولى لمسابقة منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب
{, ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين، كما قال تعالى: } وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً{ , وكيف لا يود الرجل زوجته وربة بيته وشريكة عمره، وأم أولاده ؟
وقد قال تعالى في بيان عن علاقة الأزواج بعضهم ببعض: } هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ
رد: المجموعة الأولى لمسابقة منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب
{. ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: المصاهرة بين الأسرتين، وهي إحدى الرابطتين الطبيعيتين الأساسيتين بين البشر، كما أشار القرآن بقوله : } وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا
رد: المجموعة الأولى لمسابقة منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب
{. ومن لوازم ذلك: وجود الأمومة ومالها من حقوق مؤكدة على ولدها في الإسلام، فهل من البر والمصاحبة بالمعروف أن تمر مناسبة مثل هذا العيد الكبير عندها ولا يهنئها به؟ وما موقفه من أقاربه من جهة أمه، مثل الجد والجدة، والخال والخالة، وأولاد الأخوال والخالات، وهؤلاء لهم حقوق في الأرحام وذوي القربى، وقد قال تعالى: } وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ{ وقال تعالى: } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى{.
رد: المجموعة الأولى لمسابقة منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب
فإذا كان حق الأمومة والقرابة يفرض على المسلم والمسلمة صلة الأم والأقارب بما يبين حسن خلق المسلم، ورحابة صدره، ووفاءه لأرحامه، فإن الحقوق الأخرى توجب على المسلم أن يظهر بمظهر الإنسان ذي الخلق الحسن، وقد أوصى الرسول الكريم أبا ذر بقوله: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" هكذا: " خالق الناس" ولم يقل: خالق المسلمين بخلق حسن. كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على (الرفق) في التعامل مع غير المسلمين.......
رد: المجموعة الأولى لمسابقة منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب
وتتأكد مشروعية تهنئة القوم بهذه المناسبة إذا كانوا – كما ذكر السائل- يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده الإسلامية، فقد أمرنا أن نجازي الحسنة بالحسنة، وأن نرد التحية بأحسن منها، أو بمثلها على الأقل، كما قال تعالى: } وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا{. ولا يحسن بالمسلم أن يكون أقل كرماً، وأدنى حظاً من حسن الخلق من غيره، والمفروض أن يكون المسلم هو الأوفر حظاً، والأكمل خلقاً، كما جاء في الحديث"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً" ....
رد: المجموعة الأولى لمسابقة منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب
ويتأكد هذا إذا أردنا أن ندعوهم إلى الإسلام ونقربهم إليه، ونحبب إليهم المسلمين، فهذا لا يتأتى بالتجافي بيننا وبينهم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، حسن الخلق، كريم العشرة، مع المشركين من قريش، طوال العهد المكي، مع إيذائهم له، وتكالبهم عليه، وعلى أصحابه، حتى إنهم لثقتهم به عليه الصلاة والسلام، كانوا يودعون عنده ودائعهم التي يخافون عليها، حتى إنه صلى الله عليه وسلم ، حين هاجر إلى المدينة، ترك علياً –رضي الله عنه- وأمره برد الودائع إلى أصحابها.
رد: المجموعة الأولى لمسابقة منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب
فلا مانع إذن أن يهنئهم الفرد المسلم، أو المركز الإسلامي بهذه المناسبة، مشافهة أو بالبطاقات التي لا تشتمل على شعار أو عبارات دينية تتعارض مع مبادئ الإسلام مثل (الصليب)، فإن الإسلام ينفي فكرة الصليب ذاتها } وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ{. والكلمات المعتادة للتهنئة في مثل هذه المناسبات لا تشتمل على أي إقرار لهم على دينهم، أو رضا بذلك، إنما هي كلمات مجاملة تعارفها الناس. ولا مانع من قبول الهدايا منهم، ومكافأتهم عليها، فقد قبل النبيصلى الله عليه وسلم هدايا غير المسلمين مثل المقوقس عظيم القبط بمصر وغيره، بشرط ألا تكون هذه الهدايا مما يحرم على المسلم كالخمر ولحم الخنزير. .......
رد: المجموعة الأولى لمسابقة منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب
هذا كله في الأعياد الدينية، أما الأعياد الوطنية، مثل عيد الاستقلال أو الوحدة، أو الأعياد الاجتماعية مثل: أعياد الأمومة والطفولة والعمال والشباب ونحوها، فلا حرج على المسلم أن يهنئ بها أو يشارك فيها باعتباره مواطناً أو مقيماً في هذه الديار، على أن يحرص على تجنب المحرمات التي قد تقع في تلك المناسبات، وبالله التوفيق.
الشيخ يوسف القرضاوي[6]